cropped-New-Logo.png

المكفوفون فى ملاعبنا.. كيف يرى “يتامى البصر” كرة القدم بقلوبهم

بقلم: نهى ريان

حينما يعشق الأعمى شيء، يُخلص له إخلاص محتسب، فعندما أخلص للعلم، جاء للدنيا “برايل”، وعندما أخلص للأدب، أمتعنا به طه حسين، وحين أخلص للدين، فقهنا فيه الإمام الترمذي، وأول ما  أخلص للشعر، أغدق علينا منه أبو العلاء المعري وبشار بن برد، فكيف يكون إخلاصهم حينما تتعلق قلوبهم بكرة القدم؟!

الأعمى يلمح الفرح والحزن في تضاريس الصوت، تلمع حبات العرق على جبينه من الخجل، رغم أنه لا يرى ما يخجل منه، لكنه يثق بأن القلب أصدق من العين، وبرهانه في ذلك أن مئات المكفوفين، حولوا عتمتهم إلى نور، وفقدهم إلى إعجاز تتحاكى عنه الأمم، أما أشد ما يزعجه، أن يكون يُتمه معرضا للفرجة والفضول والشفقة.

علمنا توفيق الحكيم، أن نأخذ الحكمة من الأعمى، فهو لا يضع قدمه على الأرض حتى يستوثق من موضعه بعصاه، هذا يقودنا إلى بعض مجانين الكرة من المكفوفين، هؤلاء الذين علموني أن الأعمى لا يعطى الحكمة فقط، لكنه يعطي الوفاء والتضحية أيضًا، وكيف يكون الانسان مجنونا بالكرة وسحرها حتى لو لم يراها بعينه، وأن كرة القدم هي كل ما يلمسنا، وليس كل ما نراه.

عم صلاح.. مجنون بتعافي بهوس المدرجات

في ميت عقبة، فرض “العمى” نفسه على “عم صلاح”، فانطلق من ظلمته صديقا يواسى به نفسه من يُتم البصر، هذا الحرمان، بدلا من أن يكون مدعاة للشفقة ومبررا للانطواء والعزلة، اختار هذا الزملكاوي الوفي، أن يعوضه بحب الزمالك، ومع محبوبه، رأى العالم بطريقته.

“عم صلاح” -ومن مثله- لا يفضلون قضاء أوقاتهم بين الجدران الصامتة، رغم أن الصمت كعادته يصعب تفسيره، قد يكون الاحترام والإهانة والرضا والسخط واللامبالاة وعمق الاهتمام في نفس الوقت، لكن هذا المشجع تغويه نواقيس الطبول، وأصوات الجماهير، ودقات الدفوف، وصيحات زملائه في الهوى والغرام، فيعيش مباريات الزمالك بكل حواسه بالمدرجات، يتابع الأحداث بصوت المذيع عبر أثير الراديو، بينما يعيشها بكل كيانه على كراسي المتفرجين، أو مقاعد العشاق كما يحلو لأصحابها تسميتها.

كثيرون أقنعوا “عم صلاح” بأن يكف عن الذهاب للإستاد خلف الزمالك، ووعدوه بتوفير أجواء مثالية لمتابعة المباراة بعيدا عن الزحام والصخب وإرهاق الملاعب التي يعاني منها الأصحاء، لكنهم نسوا أن العاشق مثل المدمن، لا يمكنه الشفاء من دائه أو الهروب منه، ودواء هذا المشجع أن يضعوه على كرسي المشجع، ويجعلوا الجماهير حوله، واللاعبين أمامه طوال اليوم، هكذا يتعافى من فجيعته، ويتغلب على عتمة البصر بالنور، الذي يأتي من الانتماء للزمالك.

“عم صلاح” لم يأت لهذه المدرجات بصفته مشجعا، هو لا يقول إن الزمالك سيلعب اليوم، بل يقول “سنلعب اليوم”، الحب جعله يعتبر نفسه واحد من اللاعبين، يھمس بصلوات ولعنات، يبكي حزنا ثم يتحول فى لحظات ليمزق حنجرته، يعانق المجهول بجانبه، لأنه صرخ معلنا هدفا، هو يرى الأهداف فى صيحات المحبين، يتخيلها، يداعبها، يرسمها، يشاهدها فى عقله مئات المرات.

أنا أشفق على “عم صلاح”، لأني لا تغريني في الغالب الفرجة على مباراة معادة، إيمانًا بأن البث الحي والمباشر لكرة القدم هو كل شيء، فكيف لمن لا يقدر على رؤيتها فى الأساس، أن يملك كل هذا القدر من الغواية باللعبة، التي تكمن متعتها في النظر إليها؟!

Please enable JavaScript in your browser to complete this form.
العنوان
هل سترسل مقالاتك من داخل مصر ام من خارجها ؟
هل لديك خبرات سابقة فى مجال الصحافة ؟