بقلم: نهى محمد
آثرت أن أضع هذه السطور تحت هذا العنوان، اقتبسته من مقال قديم للمرحوم مصطفى صادق الرافعي، عمره قرابة قرن من الزمان، والذي ابتدأه بالاستفهام التالي:
أفي الممكن هذا؟! لَعُوبٌ حسنةُ الدَّلِّ، مُفَاكِهةٌ مُدَاعِبةٌ، تُحيي ليلها راقصةً مغنيةً؛ حتى إذا اعتدلَ الليل ليمضي، وانتبهَ الفجر ليُقبل، انكفأتْ إلى دارها، فنَضَتْ وَشْيَها، وخرجتْ من زينتها، وخلعتْ روحًا، ولبستْ روحًا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأتْ وأفاضتْ النور عليها، وقامتْ بين يدي ربها تصلي!”
وتعبيرًا عن مثل هذه الدهشة أسوق هذه المشاهد المصرية الخالدة بين قديم وحديث، أرجو من القاريء أن يسوق التناقض الظاهر إلى مساقه الصحيح المضمر، وألا يتعجل في سوق الأحكام الفقهية أو المتاجرة بالشعارات الوطنية، فليس هذا هدفي من سوقها، مع أن مقاصد العباد لا يعلمها إلا الله هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
هدف آخر: ليعلم أولو الألباب أن تبرير المقاصد قد يكون مفيدًا ومطلوبًا على وجه العموم، أما أن يضطرك ذوو زمانك وبنو جلدتك إلى التبرير الدائم لمقاصد أفعالك فهذا خطير وغير صحي للفرد والمجتمع لإضاعته الوقت واستنزافه للعمر وإعاقته للإنتاج، فما يضير العوام أن لا تحسن فهم ما يدور حولها إذا علمت منك صدق القصد وحسن الطوية وسلامة المنهج. وعلى نفس المنوال صار المبدعون في كل لون وفن ينأون بأنفسهم عن الانخراط في حوارات يعلمون سلفًا عدم جدواها، ليس من باب التعالى، وإنما ليقين منهم بأن رسالتهم لن تصل لذاك المتلقي السفسطائي الذي لا يُعلمُ له قبيلٌ من دبير، فتجد الشعراء إذا ما عجزوا عن التفسير أو التبرير يقولون: المعنى في بطن الشاعر، وتجد أهل السينما والتلفزيون يفعلون مثلهم لذات السبب ويقولون: المخرج عاوز/عايز كده، هكذا باختصار شديد، ولسان حالهم يقول: فهمت فهذا حسن، وإن لم تفهم فلتذهب إلى الجحيم، وقريبًا من هذا المعنى أو ذاك ما أثر عن القائد الأموي البارز المهلب بن أبي صفرة قوله: لو لم يكن بالاستبداد في الرأي إلا صون السر وتوفير العقل لوجب التمسك به.
باختصارٍ: هذا تحتاجه مصر في كثير من السياقات الكلامية المعاصرة، كي تستطيع البناء والإعمار… نحتاج لألسن بكم وأيد فصاح.
************
سلامٌ على الدنيا إذا لم يَبق فيها من الأبطال إلا مُكرَهًا:
كان للدكتور علي جمعة سلسلة من المحاضرات في نهاية التسعينات بعنوان (سماتُ عصرنا)، ذاع صيتها في الأوساط العلمية آنذاك، وعدَّ الرجل منها ثلاثين سمةً أو يزيد، ألقاها بأناقةٍ ويسرٍ في القاعة الكبرى بمسجد النور بالعباسية في عصر وزير الأوقاف الراحل الدكتور محمود حمدي زقزوق، وقد دأبتُ ورفاقي في ذلك الوقت على حضور تلك المحاضرات، وقد شجعتنا محاضرات (سمات عصرنا) تلك أن نتردد أيضًا على مجلسه الفقهي في مسجد السلطان حسن، منبهرين بتلقائية الرجل وبساطة حديثه رغم عمق استنباطه وقوة استقرائه للواقع، والحقيقة أن الرجل حينها قد سبق عصره بما عدَّده من سمات العصر التي كنا نظنها من شواذ الأفكار ومبالغات الأفهام، إذ كنا نظنه حينها يبالغ في إظهار ما لديه من معارف وعلوم، تحصَّل عليها من الترجمات الأجنبية لنظريات كبار الفلاسفة والأدباء الغربيين من أمثال: هيجل ونيتشه وويليام ر. كلارك. وأسوق إليك مقطعًا بسيطًا من تلك المحاضرة القديمة:
“الخروج عن المباديء والمألوف سمة من سمات العصر، وتنتج هذه السمة مجتمعًا غير قادر على التفاهم مع أفراد جنسه، ويكون لكل منا لغة لا يفهمها إلا المتكلم وحده، ويصبح العالم ستة مليارات لغة، فإما أن يقتل بعضنا بعضًا، وإما أن نعتزل؛ لعدم وجود مشترك بيننا. فاتجاه ما بعد الحداثة يسعى لإلغاء الجنس، ويجعلون الإنسان هو الذي يحدد جنسه وليس الله، فإذا خلقه الله على صورة الرجل، وهو يريد أن يكون امرأةً فيتحول إلى امرأةٍ في جسد رجلٍ، أو العكس إذا أراد رجلاً وخلقه الله امرأةً، فلا يسلِّم بهذا الأمر ويتحول إلى رجل في جسد امرأة، وبهذا تتجاوز مرحلة ما بعد الحداثة كل الثوابت والقيم التي تعارف عليها جماعة البشر، وبرز التجاوز كسمةٍ جديدة من سمات العصر، فتمَّ تجاوز مرحلة الأسرة Family إلى مرحلة Couple وهي تعني الثنائية، أما الأسرة Family فتعني زوجًا ذكرًا وامرأةً أنثى، وجعلوا الأسرة التقليدية أحد أنواع الـ Couple؛ لأن الــ Couple تعني الثنائية، إما رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، فأصبح المصطلح الجديد أعم وله ثلاثة أشكال من الثنائية، وهم يسعون إلى أن تكون الأشكال الثلاثة مقبولة في المجتمع دون نكير، وإذا تكلمنا لماذا لا تكون الأسرة رجلًا وامرأةً فقط، يردون علينا ويقولون: نحن تجاوزنا هذه المرحلة.
ولا أحسبني مبالغًا إن ناشدت الدكتور علي جمعة لاستنهاض جزء من وقته ليضع لنا سمات عصرنا الجديدة في ضوء ما استجد من متغيرات اجتماعية مرعبة على أثر التطور الرهيب في وسائل المحاكاة والمضاهاة التي صارت ترهبها حتى الأوساط السياسية والاستخباراتية التي تنتجها (ChatGPT و Deep Fake أو ما يطلقون عليه علميًّأ تقنية التزييف العميق، ومجازًا تقنية إحياء الموتى)، وليته أثناء محاولته تلك يعرج بنا لمصطلحات مربكة ورؤى عجيبة بدأت تطفو على السطح بشكل متسارع من أمثال: الحسد الإلكتروني – الغيرة الرقمية – الإفراط في الرقمنة – تأزيـم التأزيـم – بارانويا الكمبيوتر – عدوى الفضاء الإلكتروني.. إلخ.
************
جورج يغلق أم كلثوم لأذان الفجر:
في أحد سفراتي الفجرية أقلني إلى المطار سائق أربعيني يسمى جورج، وشغل كاسيت سيارته على أغنية لأم كلثوم، وبينما ألتحف الصمت استكمالًا لنومتي المؤرقة، وخيالي يسرح بين النائم واليقظان، وإذا بصوت أذان الفجر يقتحم سيارة الأجرة بهدوء عجيب، وبينما أردد سرًّا خلف المؤذن: الله أكبر الله أكبر، كي لا أقطع على جورج أغنيته أو أحرجه بترديدي جهرًا، فإذا به يمد يده نحو الكاسيت مغلقًا له احترامًا وتوقيرًا للأذان، ويقول كما يقول عوام المسلمين في مصر عندما يسمعون الآذان: الله أكبر من كل شيء، ثم يعيد رفع صوت أغنيته، يفعل هذا بتلقائية شديدة وكأن لا أحد بجواره. سبحت بخيالي بعيدًا لأجد نفسي أسأل جورج وأجيب عنه في الوقت ذاته دون أن أنبس ببنت شفة:
** ما دينك يا جورج؟
** يجيب جورج: أنا مصريٌّ أسلَمَ لفطرته، ومسيحيُّ ذابَ في مصريته.
************
محمد الميكانيكي يفتي لنفسه بفطرته:
الأسطى محمد من قرية جنوب محافظة الجيزة، ينقطع به الطريق بعد إصلاح موتور أحد الجرارات الزراعية بطريق القاهرة – الاسكندرية الصحراوي، فأجدني أقله معي في سيارتي لمدة تقارب الأربعين دقيقة، كانت كافيةً لدرس فقهي جديد في القطر المصري المتفرد في إنسانه وعمرانه.
فرغم الحالة الاقتصادية الصعبة تجد الأسطى محمد الذي يقارب عمره خمسين ربيعًا منشرح الصدر تمامًا بعد يومية حصل عليها قدرها 500 جنيهًا، وإذا به يحمد الله عز وجل ثلاث مرات بمجرد أن ألقى جسده على الكرسي المجاور لي، وذلك أن ساقني الله إليه وسخرني له ليوفر من يوميته 50 جنيهًا كان سيدفعها أجرة لسائق الميكروباص. فما حكايتك يا أسطى محمد؟
يروي لي بأنه يعمل مزارعًا في الحقل لثلاثة أيام، وميكانيكيًّا لثلاثة أيامٍ أخرى، تزوج أرملة مسيحية من قريته تعمل محاسبةً في الديوان الحكومي، ويربي طفلتها الصغيرة من زوجها المتوفى، ويفتخر بأن ترك زوجته تمارس عملها كي يقدم لها من نفسه نموذجًا طيبًا في التفاهم الأسري بين شريكين على خلفية دينية متعددة. وماذا بعد يا أسطى محمد؟!!!
يواصل الأسطى محمد حديثه: تدون لي زوجتي المسيحية كل ما أتحصل عليه شهريًّا لقاء عملي باليومية عند خلق الله، ثم تضيف إليه هي الأخرى مرتبها الشهري، ثم نقوم بإخراج العشر منه صدقةً للفقراء والمساكين نهاية كل شهرٍ.
يا أسطى محمد: تتصدق بعشر رزقك نهاية كل شهر؟ أم بعشر ما يتبقى منه بعد مصاريف أهل بيتك؟ يجيب الأسطى محمد: لا، بل أتصدق بالعشر قبل الصرف.
عبثًا حاولت أن أقنعه بأن لا زكاة عليه في ماله هذا، وعبثًا حاولت أن أخبره بأن زكاة المال لها تجب إلا في نصاب معلوم (85 جراما من الذهب أي 170,000 جنيه تقريبا)، وبعد مرور عامٍ كاملٍ على توافر هذا النصاب في بيته دون إنفاق.
غادرني الأسطى محمد إلى قريته، وطاف بي طائف الخيال وأتاني بفضيلة الإمام الأكبر حفظه الله وقد بُحَّ صوته في الشرق والغرب بأن الإسلام الحق ليس عدوًّا للمسيحية الحقة، وبالدكتور علي السالوس رحمه الله وهو يقضي من عمره عقودًا بين علوم الشريعة والاقتصاد ليستخلص للدارسين أحكام الزكاة المستحدثة لودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي. فلله دَرُّ الواثق بالله الأسطى محمد، ولنفسي ومن على شاكلتي أتمثل لها قول الشاعر راثيًا:
نبني من الأقوالِ قصرًا شامخًا ** والفعلُ دون الشامخاتِ ركامُ.
أود أن أترك ختام هذا المشهد للأديب الخالد مصطفى صادق الرافعي بمقطع من رائعته (وحي القلم)، يستنهض بين أبناء عصره المنظومة الخلقية والقيم المجمتعية الراكدة في جوف المجتمع المصري، يقول رحمه الله: “لقد رَقَّ الدين في نسائنا ورجالنا؛ فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة: (حرام، وحلال) قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى (لائق، وغير لائق)، ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى (معاقَب عليه قانونًا، ومباح قانونًا…)، ثم انحطَّت آخِرًا عند السواد والدَّهْماء إلى (ممكن، وغير ممكن…)؟!”
شارك هذا الموضوع:
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)
- اضغط لتشارك على LinkedIn (فتح في نافذة جديدة)
- اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة)
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة)
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة)
- النقر لإرسال رابط عبر البريد الإلكتروني إلى صديق (فتح في نافذة جديدة)